الآية الحادية والأربعون:{الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}.أي عدد الطلاق الذي يثبت فيه الرجعة، فالمراد بالطلاق هنا هو الرجعي بدليل ما تقدم في الآية الأولى هو {مَرَّتانِ} أي الطلقة الأولى والثانية ولا رجعة بعد الثالثة. وإنما قال سبحانه مرتان ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة، لا طلقتان دفعة واحدة، كذا قال جماعة من المفسرين، ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا أحد أمرين: إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة أو الإمساك لها استدامة نكاحها، وعدم إيقاع الثالثة عليها.قال سبحانه: {فَإِمْساكٌ} بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين {بِمَعْرُوفٍ} أي بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة. {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} أي بإيقاع طلقة ثالثة عليها من دون ضرار لها.وقيل: المراد إمساك بمعروف أي: برجعة بعد الطلقة الثانية أو تسريح بإحسان أي: بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدتها، والأول أظهر.وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثا أو واحدة فقط؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني من عداهم وهو الحق.قال الشوكاني في فتح القدير: وقد قررته في مؤلفاتي تقريرا بالغا وأفردته برسالة مستقلة انتهى.قلت: وهو الذي اختاره شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني والشيخ الحافظ الإمام محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزية الدمشقي وغيرهما جمع من الأئمة الأعلام قديما وحديثا.وقد بسطت القول فيه في شرحي لبلوغ المرام بأبلغ تقرير وأفصح نظام.{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} الخطاب للأزواج أي لا يحل لهم أن يأخذوا مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئا على وجه المضارة لهن.وتنكير {شيئا} للتحقير أي شيئا نزرا فضلا عن الكثير.وخص ما دفعوه إليهن بعدم حل الأخذ منه مع كونه لا يحل للأزواج أن يأخذوا شيئا من أموالهنّ التي يملكنها من غير المهر لكون ذلك هو الذي تتعلق به نفس الزوج ويتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحلّ له، كان ما عداه ممنوعا منه بالأولى.وقيل: الخطاب للأئمة والحكام ليطابق قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} فإن الخطاب فيه للأئمة والحكام وعلى هذا يكون إسناد الأخذ إليهم لكونهم الآمرين بذلك.والأول أولى لقوله: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جدا لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم.وقيل: إن الثاني أولى لئلا يشوش النظم.{إِلَّا أَنْ يَخافا}: أي لا يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا {أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ}: أي عدم إقامة حدود اللّه التي حدها للزوجين، وأوجب عليهما الوفاء بها من حسن العشرة والطاعة.{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ}: أي إذا خاف الأئمة والحكام أو المتوسطون بين الزوجين وإن لم يكونوا أئمة وحكاما، عدم إقامة حدود اللّه من الزوجين وهي ما أوجبه عليهما.{فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}: أي لا جناح على الرجل ولا على المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع.وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج، وأنه يحلّ له الأخذ مع ذلك الخوف. وهو الذي صرّح به القرآن. وحكى ابن المنذر عن بعض أهل العلم أنه لا يحلّ له ما أخذ ولا يجبر على رده وهذا في غاية السقوط. وقرأ حمزة {إِلَّا أَنْ يَخافا} على البناء للمجهول والفاعل محذوف وهو الأئمة والحكام واختاره أبو عبيد. قال: لقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} فجعل الخوف لغير الزوجين، وقد احتج بذلك من جعل الخلع إلى السلطان وهو سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين.وقد ضعف النحاس اختيار أبي عبيد المذكور.وقد حكي عن بكر بن عبد اللّه المزني أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20)} [النساء: 20]. وهو قول خارج عن الإجماع ولا تنافي بين الآيتين.وقد اختلف أهل العلم إذا طلب الزوج من المرأة زيادة على ما دفعه إليها من المهر وما يتبعه ورضيت بذلك المرأة هل يجوز أم لا؟وظاهر القرآن الجواز لعدم تقييده بمقدار معين، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين.وقال طاووس وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق أنه لا يجوز.وقد ورد في ذمّ المختلعات أحاديث منها حديث ثوبان قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه، وابن ماجة والحاكم، وصححه.وقال: «المختلعات هن المنافقات». رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه، وابن ماجة وابن جرير والحاكم، وصححه، والبيهقي أيضا.ومنها عن ابن عباس- عند ابن ماجة- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة وإن ريحها لتوجد مسيرة أربعين عاما».وقد اختلف أهل العلم في عدة المختلعة: والراجح أنها تعتد بحيضة لما أخرجه أبو داود والترمذي، وحسنه، والنسائي والحاكم، وصححه، عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة. وفي الباب أحاديث. ولم يرو ما يعارض هذا من المرفوع بل ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين أن عدة المختلعة كعدة الطلاق.وبه قال الجمهور. قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم، واستدلوا على ذلك بأن المختلعة من جملة المطلقات فهي داخلة تحت عموم القرآن.والحق ما ذكرناه لأن ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يخصص عموم القرآن. وتمام البحث في مسك الختام شرح بلوغ المرام فليرجع إليه، وفي الباب أحاديث في ذم التحليل وفاعله فليعلم.